فصل: تفسير الآية رقم (87):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (85):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [85].
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} أي: وأرسلنا إليهم. قال ابن إسحاق: هم من سلالة مدين بن إبراهيم، وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين.
قال ابن كثير: مدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة التي بقرب معان من طريق الحجار وهم أصحاب الأيكة.
{قَالَ يَا قَوْمِ} أي: الذين أحب كمالهم ديناً ودنيا: {اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وهذه دعوة الرسل كلهم كما قدمنا.
{قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُم} أي: ما تبين به الحق من الباطل.
يعني دعوته وإرشاده، ومن هنا قال بعضهم: عُني بالبينة مجيء شعيب، وأنه لم تكن له آية إلا النبوة، ومن فسر البينة بالحجة والبرهان، والمعجزة المحسوسة ذهاباً إلى أن النبي لما كان يدعو إلى شرع يوجب قبوله، فلابد من دليل يعلم صدقه به، وما ذاك إلا المعجزة.
قال: إن معجزة شعيب لم تذكر في القرآن، وليست كل آيات الأنبياء مذكورة في القرآن، ولا يخفى أن البينة أعم من المعجزة بعرفهم، فكل من أبطلت شبهة ضلاله، وأظهرت له حجة الحق الذي يدعى إليه فقد جاءته البينة، لأن حقيقة البينة كل ما يبين الحق، فاحفظه.
قال الجشمي: واختلفوا، فقيل: لا يجوز أن يبعث إلا ومعه شرع- عن أبي هاشم-.
وقيل: يجوز أن يدعو إلى ما في العقل- عن أبي علي- انتهى.
وقد دلت الآيات هذه على أن شعيباً عليه السلام، دعاهم إلى التوحيد والشرائع، على ما جرت به عادة الرسل، فمنها قوله: {فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} أي: فأتموهما للناس بإعطائهم حقوقهم: {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ} أي: لا تنقصوهم حقوقهم فلا تخونوا الناس في أموالهم، وتأخذوها على وجه البخس، وهو نقص المكيال والميزان خفية وتدليساً كما قال تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} إلى قوله: {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.
يقال: بخسه حقه أي: نقصه إياه، وظلمه فيه.
قال الزمخشري: كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم، أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً غلا مكسوه.
قال زهير:
أفي كلِّ أسواقِ العراقِ إتاوةٌ ** وفي كلِّ ما باع امرُؤٌ مَكْسُ دِرَْهمِ

قال القاضي: وإنما قال: {أشْيَآءَهُمْ} للتعميم، تنبيهاً على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير. انتهى.
والنهي عن النقص يوجب الأمر بالإيفاء. فقيل في فائدة التصريح بالمنهي عنه بيان لقبحه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله تعالى: {ولاَ تَبْخَسُواْ} الآية، قال: أي: لا تسمّوا لهم شيئاً، وتعطوا لهم غير ذلك.
ودلت الآية على أن إيفاء الكيل والميزان واجب على حسب ما يعتاد في صفة الكيل والوزن.
{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ} أي: بالكفر والظلم {بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} أي: بعد ما أصلح أمرها وأهلها الأنبياء، وأتباعهم الصالحون العاملون بشرائعهم، من وضع الكيل والوزن والحدود والأحكام.
{ذَلِكُمْ} إشارة إلى العمل بما أمروا به ونهوا عنه {خَيْرٌ لَّكُمْ} في الحال لتوجه الناس إليكم بسبب حسن الأحدوثة، وفي المآل: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي: مصدقين قولي.

.تفسير الآية رقم (86):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [86].
{وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} نهي عن قطع الطريق الحسي. أي: لا تجلسوا على كل طريق فيه ممر الناس الغرباء، تضربونهم وتخوفونهم، تأخذون ثيابهم، وتتوعدونهم بالقتل، إن لم يعطوكم أموالهم.
قال مجاهد: كانوا عشارين- أخرجه أبو الشيخ- وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي مثله.
وعن ابن عباس وغير واحد أي: تتوعدون المؤمنين الآتين إلى شعيب ليتبعوه.
قال ابن كثير: والأول أظهر، لأنه قال: {بِكُلِّ صِراطٍ} وهو الطريق، وهذا الثاني هو قوله: {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي: تصرفون عن دين الله وطاعته من آمن بشعيب، وتطلبون لها عوجاً بإلقاء الشبه، ووصفها بما ينقصها لتغييرها: {وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} بالعدد والعُدد، فاشكروا نعمة الله عليكم في ذلك: {وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أي: من الأمم الخالية، والقرون الماضية، وما حل بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب رسله.

.تفسير الآية رقم (87):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن كَانَ طَائفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [87].
{وَإِن كَانَ طَائفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ} يعني وإن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين مؤمنة وكافرة {فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا} أي: بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين، فهو وعد للمؤمنين، ووعيد للكافرين.
قال الشهاب: وخطاب اصبروا للمؤمنين، ويجوز أن يكون للفريقين، أي: لصبر المؤمنون على أذى الكفار، والكفار على ما يسوؤهم من إيمانهم. أو للكافرين أي: تربصوا لتروا حكم الله بيننا وبينكم {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} لأنه منزه عن الجور في حكمه، فسيجعل العاقبة للمتقين، والدمار على الكافرين.

.تفسير الآية رقم (88):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [88].
{قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ} أي: عن الإيمان.
{لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ} أي: إلى ترك دعوة الرسالة، والإقرار بها داخلين: {فِي مِلَّتِنَا} أي: ملة المشركين.
قال الجشمي: الملة الديانة التي يجمع على العمل بها فرقة عظيمة. والأصل فيه تكرر الأمر، من قولهم: طريق ممل ومليل، إذا تكرر سلوكه حتى صار معلماً. ومنه الملل: تكرار الشيء على النفس حتى تضجر منه. انتهى.
{قَالَ} أي: شعيب: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} أي: أتجبروننا على ذلك وإن كنا كارهين له؟ مع أنه لا فائدة في الإكراه، لأن دينكم إن كان حقاً، لم نكن بالإكراه منقادين له، وإن كان باطلاً، لم نكن بالإكراه متصفين به، لأنه بالحقيقة صفة القلب، ولا يسري إكراهكم إليه. وكيف لا نكرهه وهو يستلزم غاية القبح والظلم.

.تفسير الآية رقم (89):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [89].
{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً} أي: اختلفنا عليه باطلاً بأن له شريكاً {إِنْ عُدْنَا} إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها، لندخل: {فِي مِلَّتِكُم} القائلة بأن له شريكاً.
{بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا} فأرانا أنه كالإنجاء من النار.
{وَمَا يَكُونُ} أي: ينبغي: {لَنَا أَن نَّعُودَ} أي: عن دعوى الرسالة والإقرار بها فنصير: {فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا} أي: الذي يربينا بما علم من استعدادنا، لأنه: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} أي: فعلم استعداد كل واحد في كل وقت، لكن: {عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا} أي: لحفظنا عن المصير إليها: {رَبَّنَا} إن قصدوا إكراهنا عليها، أو إخراجنا من قريتهم: {افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} فغلبنا عليهم {وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} أي: خير الحاكمين، فلا تغلّب الظالمين وإن كثروا، على المظلومين إذا استفتحوك.
تنبيهات:
الأول: اعلم أن ظاهر قوله تعالى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} وقوله: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا} يدل على أن شعيباً عليه السلام كان على ملتهم قبل بعثته، ومعلوم عصمة الأنبياء عن الكبائر، فضلاً عن الشرك.
وفي المواقف وشرحها: أن الأمة أجمعت على عصمة الأنبياء من الكفر قبل النبوة وبعدها، غير أن الأزارقة من الخوارج جوزوا عليهم الذنب، وكل ذنب عندهم كفر، فلزمهم تجويز الكفر، وجوز الشيعة إظهار الكفر تقية عند خوف الهلاك، واحترازاً عن إلقاء النفس في التهلكة. ومثله في شرح التجريد.
ولما تقرر إجماع الأمة على ما ذكر، كان للعلماء في هذه الآية وجوه:
منها: أن العود المقابل للخروج، هو العود إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها.
والجار والمجرور حال، أي: ليكن منكم الخروج من قريتنا، أو العود إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها، داخلين في ملتنا، وهذا الوجه اقتصر عليه المهايمي، وسايرناه فيه مع تفسير تتمة الآية.
ومنها: أن العود المذكور إلى ما خرج منه، وهو القرية. والمجرور حال كالسابق، أي: ليكن منكم الخروج من قريتنا أو العود إليها، كائنين في ملتنا. وعُدِّي عاد بفي كأن الملة لهم منزلة الوعاء المحيط بهم.
ومنها: أن هذا القول جار على ظنهم أنه كان في ملتهم، لسكوته قبل البعثة عن الإنكار عليهم.
ومنها: أنه صدر عن رؤسائهم تلبيساً على الناس، وإيهاماً لأنه كان على دينهم، وما صدر عن شعيب عليه السلام كان على طريق المشاكلة.
ومنها: أن: {لَتَعُودُنَّ} بمعنى لتصيرن، إذ كثيراً ما يرد عاد بمعنى صار، فيعمل عمل كان، ولا يستدعي الرجوع إلى حالة سابقة، بل عكس ذلك، وهو الانتقال من حال سابقة، إلى حال مؤتنفة مثل صار.
وكأنهم قالوا- والله أعلم-: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا، أو لتصيرن كفاراً مثلنا.
قال الرازي: تقول العرب: قد عاد إليَّ من فلان مكروه، يريدون: قد صار إلي من المكروه ابتداء.
قال الشاعر:
فإن تكنِ الأيام أحسنّ مدةً ** إليّ فقد عادت لهنَّ ذُنُوبُ

أراد: فقد صارت لهن ذنوب، ولم يرد أن ذنوباً كانت لهن قبل الإحسان. انتهى.
ومنه حديث معاذ. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أعُدت فتّاناً يا معاذ؟» أي: صرت.
ومنه حديث خزيمة: «عاد لها النِّقادُ مُجْرَنثماً» أي: صار.
وفي حديث كعب: وددت أن هذا اللبن يعود قطراناً، أي: يصير. فقيل له: لم ذلك؟ قال تتبعت قريش أذناب الإبل، وتركوا الجماعات.
قال الشهاب: إلا أنه قيل إنه لا يلائم قوله: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا} إلا أن يقال بالتغليب فيه، أو يقال: التنجية لا يلزم أن تكون بعد الوقوع في المكروه، ألا ترى إلى قوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} وأمثاله؟
ومنها: أن العود يطلق، ويراد به الابتداء. حققه الراغب والجار بردي وغير واحد.
وأنشدوا قول الشاعر:
وعادَ الرأسُ مِنِّي الكثَّغَامِ

ومعنى الآية: لتدخلّن في ملتنا، وقوله تعالى: {إنْ عُدْنا} أي: دخلنا- كذا في تاج العروس-.
ومنها: إبقاء صيغة العود على ظاهرها، من استدعائها رجوع العائد، إلى حال كان عليها قبل، كما يقال: عاد له، بعد ما كان أعرض عنه، إلا أن الكلام من باب التغليب.
قال الزمخشري: لما قالوا: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ} فعطفوا على ضميره، الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم، قالوا: {لَتَعُودُنَّ} فغلبوا الجماعة على الواحد، فجعلوهم عائدين جميعاً، إجراءاً للكلام على حكم التغليب.
وعلى ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه فقال: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا} وهو يريد عود قومه، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم، وإن كان بريئاً من ذلك، إجراء لكلامه على حكم التغليب. انتهى.
ومنها: ما قاله الناصر في الانتصاف: إنه يسلم استعمال العود بمعنى الرجوع إلى أمر سابق، ويجاب عن ذلك بمثل الجواب عن قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}.
والإخراج يستدعي دخولاً سابقاً فيما وقع الإخراج منه، نحن نعلم أن المؤمن الناشئ في الإيمان لم يدخل قط في ظلمة الكفر ولا كان فيها، وكذلك الكافر الأصلي لم يدخل قط في نور الإيمان، ولا كان فيه، ولكن لما كان الإيمان والكفر من الأفعال الإختيارية التي خلق الله العبد متيسراً لكل واحد منها متمكناً منه لو أراده، فعبر عن تمكن المؤمن من الكفر ثم عدوله عنه إلى الإيمان، إخباراً بالإخراج من الظلمات إلى النور، توفيقاً من الله له، ولطفاً به، بل وبالعكس في حق الكافر.
وقد مضى نظير هذا النظر عند قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى}، وهو من المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب، وفائدة اختياره في هذه المواضع تحقيق التمكن والإختيار لإقامة حجة الله على عباده- والله أعلم- انتهى.
الثاني: في قوله: {إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا} رد إلى الله تعالى مستقيم.
قال الواحدي: والذي عليه أهل العلم والسنة في هذه الآية، أن شعيباً وأصحابه قالوا: ما كنا لنرجع إلى ملتكم، بعد أن وقفنا على أنها ضلالة تكسب دخول النار، إلا أن يريد إهلاكنا، فأمورنا راجعة إلى الله، غير خارجة عن قبضته، يسعد من يشاء بالطاعة، ويشقي من يشاء بالمعصية وهذا من شعيب وقومه استسلام لمشيئة الله.
ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة، وانقلاب الأمر. ألا ترى إلى قول الخليل عليه الصلاة والسلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}؟ وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول: «يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك».
وقال الزجاج: المعنى: وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها، وتصديق ذلك قوله: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}، يعني أنه تعالى يعلم ما يكون، من قبل أن يكون، وما سيكون، وأنه تعالى كان عالماً في الأزل بجميع الأشياء، فالسعيد من سعد في علم الله تعالى، والشقي من شقي في علم الله تعالى.
وقال الناصر في الانتصاف: موقع قوله: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} الإعتراف بالقصور عن علم العاقبة، والإطلاع على الأمور الغائبة، فإن العود إلى الكفر جائز في قدرة الله أن يقع من العبد، ولو وقع فبقدرة الله ومشيئته المغيبة عن خلقه، فالحذر قائم، والخوف لازم.
ونظيره قول إبراهيم عليه السلام: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} لما رد الأمر إلى المشيئة، وهي مغيبة، مجد الله تعالى بالإنفراد بعلم الغائبات- والله أعلم-.
وقال أبو السعود: معنى: {وما يَكُونُ لَنا} الآية، أي: ما يصح لنا أن نعود فيها حال من الأحوال، أو في وقت من الأوقات، إلا أن يشاء الله، أي: إلا حال مشيئة الله تعالى، أو وقت مشيئته تعالى لعودنا فيها، وذلك مما لا يكاد يكون، كما ينبئ عنه قوله تعالى: {رَبَّنا} فإن التعرض لعنوان ربوبيته تعالى لهم، مما ينبئ عن استحالة مشيئته تعالى لارتدادهم قطعاً، وكذا قوله: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا} فإن تنجيته تعالى لهم منها، من دلائل عدم مشيئته لعودهم فيها.
وقيل معناه: إلا أن يشاء الله خذلاننا، فيه دليل على أن الكفر بمشيئته تعالى، وأياً ما كان، فليس المراد بذلك بيان أن العود فيها في حيز الإمكان، وخطر الوقوع، بناء على كون مشيئته تعالى كذلك، بل بيان استحالة وقوعها. كأنه قيل: وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا، وهيهات ذلك، بدليل ما ذكر من موجبات عدم مشيئته تعالى له. انتهى.
ولايخفى أن إفهام ذلك الإستحالة، هو باعتبار الواقع وما يقتضيه منصب النبوة، وأما إذا لوحظ مقام الخوف والخشية، الذي هو من أعلى مقامات الخواص، فيكون ما ذكرناه أولاً أدق، وبالقبول أحق.
قال الإمام ابن القيم في طريق الهجرتين: قد أثنى الله سبحانه على أقرب عباده إليه بالخوف منه، فقال عن أنبيائه، بعد أن أثنى عليهم ومدحهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً}، فالرغب الرجاء، والرهب الخوف والخشية.
وقال عن ملائكته الذين قد آمنهم من عذابه: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية». وفي لفظ آخر: «إني أخوفكم لله وأعلمكم بما أتقي». وكان صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء.
وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، فكلما كان العبد بالله أعلم، كان له أخوف.
الثالث: قال الفراء: أهل عُمان يسمون القاضي، الفاتح والفتاح. لأنه يفتح مواضع الحق، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما كنت أدري ما قوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك، أي: أحاكمك.
وقال الشهاب: الفتح، بمعنى الحكم، وهي لغةٌ لِحْمَير أو لمراد، الفُتاحة بالضم عندهم الحكومة. أو هو مجاز بمعنى: أظهر وبين أمرنا، حتى ينكشف ما بيننا وبينهم، ويتميز المحق من المبطل.
ومنه فتح المشكل لبيانه وحلّه، تشبيهاً له بفتح الباب وإزالة الأغلاق، حتى يوصل إلى ما خلفها.